وقد قال (ابن حجر) في أول (مقدمة فتح الباري) ما نصه: اعلم أن آثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن في عصر الصحابة وكبار التابعين مدونة في الجوامع، ولا مرتبه، لأمرين: أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في (صحيح مسلم)، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم. وثانيهما: لسعة حفظهم، وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة. ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، واتسع الخرق على الراقع، وكاد أن يلتبس الباطل بالحق. فأول من جمع في ذلك (الربيع بن صبيح) (وسعيد ابن أبي عروبة) وغيرهما. دونت أحكام الحديث في منتصف القرن الثاني وكانوا يصنفون كل باب على حده، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثانية في منتصف القرن (ص 6) الثاني، فدونوا الأحكام. فصنف (الإمام مالك) (الموطأ) بالمدينة، وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين، ومن بعدهم. أول من صنف الحديث بمكة ابن جريج وصنف (أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج) بمكة، (وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي) بالشام، (وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري) بالكوفة، (وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار) بالبصرة. ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم، أن يفرد حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصة، وذلك على رأس المائتين. فصنف (عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي) مسندا، وصنف (مسدد بن مسرهد البصري) مسندا، وصنف (أسد بن موسى الأموي) مسندا، وصنف (نُعيم بن حماد الخزاعي) نزيل مصر مسندا، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، (كالإمام أحمد بن حنبل) (و إسحاق بن راهويه) (وعثمان بن أبي شيبة) وغيرهم من النبلاء. ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا (كأبي بكر بن أبي شيبة) اهـ. وعبارته في (إرشاد الساري) قال: منهم من رتب على المسانيد (كالإمام أحمد بن حنبل) (و إسحاق بن راهويه) (وأبي بكر ابن أبي شيبة) (وأحمد بن منيع) (وأبي خيثمة) (والحسن بن سفيان) (وأبي بكر البزار) وغيرهم. ومنهم من رتب على العلل: بأن يجمع في كل متن طرقه، واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلا، أو وقف ما يكون مرفوعا، أو غير ذلك. ومنهم من رتب على الأبواب الفقهية، وغيرها، ونوّعه أنواعا، وجمع ما ورد في كل نوع، وفي كل حكم إثباتا ونفيا، في باب فباب، بحيث يتميز ما يدخل في الصوم مثلا عما يتعلق بالصلاة. وأهل هذه الطريقة منهم من تقيد بالصحيح (كالشيخين) وغيرهما، ومنهم من لم يتقيد بذلك كباقي الكتب الستة، وكان أول من صنف في الصحيح (محمد بن إسماعيل البخاري). ومنهم المقتصر على (ص 7) الأحاديث المتضمنة للترغيب والترهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط، (كالبغوي) في (مصابيحه) (واللؤلؤي) في (مشكاته) اهـ.